الطائفية والتميز العنصري في العراق ,دراسة تاريخية  
 
  ضمن سلسلة النشاطات التي تقوم بها وحدة التعليم المستمر في مركزنا وبرعاية ودعم من السيد مدير المركز الاستاذ المساعد الدكتور عامر متعب حسين , اقام مركزنا حلقة نقاشية عن موضوع التطرف والعنصري للمدرس المساعد عباس كاظم عباس بعنوان (الطائفية والتميز العنصري في العراق ,دراسة تاريخية ) على هامش ماجاء بكتاب وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وجامعة بغداد باقامت حلقات نقاشية وندوات توعوية لنبذ العنف والطائفية لمناهضة الغلو والتطرف والعنصرية لعراق جديد مشرق

يشير مصطلح الطائفة اليوم إلى كل التجمعات التي تقوم على أساس من الدين في أطار المجتمع القومي الحديث، على أختلاف مستوياتها. مما يعني أن المصطلح حل اليوم محل المصطلحات التي كانت سائدة (الفِرقة، المِلة، النِحلة) ان لم يكن قد أتسع ليشمل حتى دلالة مصطلح المذهب (المعتقد) .
ومثل هذا التحول في دلالة المصطلح لم يحصل إلا مع العصر الحديث، أذ شهد في أوربا الانتقال من نطاق الانتماء الديني إلى نطاق الانتماء القومي الحديث. وأصبح أي تمايز ديني في أطار المجتمع القومي يطلق عليه وصف الطائفي (Sectarian) بعد أن كان يطلق عليه وصف ديني. ولعل ما يدعم ذلك أن الحروب التي دارت في أوربا بين الكاثوليك والبروتستانت قبل قيام الدولة القومية في أوربا لم يطلق عليها وصف الحروب الطائفية وإنما وصف الحروب الدينية من قبل المؤرخين.
وبانتقال نموذج الدولة القومية إلى البلدان العربية وعن طريق الترجمة لكلمة 
(  (Sectالانكليزية أو (Secte) الفرنسية، ترسخ أستخدام مصطلح (الطائفة)، ومع ذلك فإن الطوائف ككيانات اجتماعية كانت قائمة وراسخة الوجود في التاريخ الإسلامي لاسيما في عهد الدولة العثمانية.
لذا  فأن المفهوم يثير عدداً من الاشكاليات التي سيتعرض لها المبحث ضمن ثلاثة مطالب أساسية.
وردت لفظة الطائفة في القران الكريم بصيغة المفرد في عشرين موضعاً، ووردت في صيغة التثنية في أربع مواضع أخرى، ومنها قوله تعالى: ((فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ))، وقوله تعالى: ((وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ))، كما وردت في الكثير من الاحاديث النبوية الشريفة ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من امتي على الحق ظاهرين لايضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة)).
واللفظ في العربية مأخوذ من الطوف (طاف يطوف فهو طائف) مما يعني أن البناء اللفظي يشير إلى معنى تحرك الجزء من الكل دون الانفصال عنه. وقد ورد في لسان العرب أن الطائفة من الشىء: جزء منه. والطائفة: الرجل الواحد إلى الالف، وقيل الرجل الواحد فما فوقه. وروي أيضاً أن أقله رجل. كما قيل أقله رجلان. يقال طائفة من الناس وطائفة من الليل. وسُئِل اسحق  بين راهويه عنه فقال: الطائفة دون الألف. والطائفة أيضاً القطعة من الشيء.
إن هذا المفهوم يحمل معنى العدد القليل أو الاقلية العددية الصغيرة   المتحركة في أطار الكل فهو اذن مفهوم كمي عددي يشير إلى أية أقلية تتصف بخصائص مميزة، دينية  أو عرقية أو حرفية ضمن اطار المجموع.
ومن خلال التتبع لاستخدامات هذا المصطلح تأريخياً، يبدو أنه لم تكن له دلالة دينية حصرية كمصطلحي (المِلل والنِحل) أو حتى شبه حصرية كمصطلحي (الفِرق والمذاهب). 
بل استُخدِم لوصف تمايز الجماعات الصغيرة ضمن أطار المجموع على أسس دينية أو حرفية أو عرقية.
لذا فإن هذا المصطلح لم يستخدم على نطاق واسع في كتب المقالات والفرق بالقياس إلى المصطلحات الاخرى، وأكثر من أفاض في استخدامه ابن حزم الظاهري في كتابه (الفصل في المِلل والأهواء والنِحل)، وقد استخدم على هذا الصعيد أيضاً بمعناه السابق الذي يشير إلى الاقلية من حملة المقالات والآراء نسبة إلى ما كانت الاكثرية تتبناه، ثم عندما حصلت انقسامات داخل هذه الجماعات سميت أيضاً طوائف، إذا أُشير إلى طوائف من الخوارج وطوائف من المعتزلة وطوائف من الشيعة.
إلا إن تحولاً حصل في دلالة المصطلح منذ بدايات القرن العشرين، بحيث أصبحت له دلالة دينية قوية وتراجعت أو اختفت دلالاتة الاجتماعية الاخرى.
يشير أحد الباحثين في معرض بحثه للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي لبلاد الشام إلى ما أسماه طوائف أسرية وحرفية، وقد تبين أن هناك ما يقرب من مائة وثلاث وستين طائفة (بمعنى الجماعات الحرفية ) وكان لكل طائفة أسرية أو حرفية شيخها كما في الطوائف الدينية، وبذلك يخلص إلى القول ((لم يقتصر أستعمال كلمة (طائفة) على التنظيم الحرفي  إذ أُطلقت أيضاً على طائفة دينية كما في شيخ طائفة اليهود، أو على جماعة المقيمين من الاغراب …. أو طائفة عسكرية … واستعملت الكلمة في مجالات أخرى لتدل على فئة اجتماعية تحترف الإخلال بالأمن، كما في طائفة أشقياء العرب (أي البدو)، قطاع الطرق وطائفة الحرامية والسراق أو طائفة السراقين)).
والأمر هنا لا يقتصر على التداخل اللفظي بين الجماعات الدينية والجماعات الحرفية، وإنما يتعداه إلى التداخل على صعيد التنظيم الداخلي البنيوي، وكان هذا التداخل معروفاً منذ العصور الوسطى ((فلكي يدافع الحرفيون عن مصالحهم وحقوقهم فقد تعين عليهم الانخراط في تنظيم نقابي حرفي ولم تقتصر مهام النقابة على الجوانب الانتاجية فحسب بل انها اضطلعت بمهام عسكرية ودينية في آن واحد وأصبح لكل نقابة تنظيم عسكري يدافع عن حقوقها ويدخل المعارك إذا اقتضت الضرورة، كما كان لها أديرتها الخاصة وطقوسها الدينية المتميزة، والأكثر من هذا كان لكل نقابة قديس يحتمي به الأعضاء من عاديات الزمن)).
ومثل هذا التداخل بين الحرفي والديني هو الذي ميز الواقع الاجتماعي في الامبراطورية العثمانية، فقد كان نظام الحرف هو الموازي الاقتصادي لنظام الملل وكان أبناء كل طائفة دينية يتركزون في حرفة اقتصادية معينة وقد تعزز ذلك بعامل ثالث وهو محل الاقامة، إذ عادة ما كان أبناء كل طائفة يقطنون في نفس الحي أو الشارع أو الحارة، كذلك كان أبناء كل حرفة يعملون في نفس السوق أو الحي أو الشارع وعادة ما كان مقر السكن ومقر العمل في المكان نفسه حيث تتداخل المراجع الثلاثة التي تحدد الوجود اليومي للفرد (ديانته ومهنته وسكنه).
ولذلك فقد شكلت الجماعات الدينية وحدات ضريبية واجتماعية قائمة على علاقات القرابة والاختصاص المهني، وكما تتطلب نظم الاستتباع، فقد كان كبار الوحدات الاستتباعية هم المسؤولون عن انضباط هذه الوحدات وتسيير أمورها وفقاً لمعايير خاصة بها بما فيها شؤون القضاء والأحوال الشخصية، بل كان لبعضهم من السلطات ما جعل منه دولة ضمن الدولة، فكان ينفي ويسجن ويَحرم، وكانت الدولة تقدم له المعونة العسكرية لتنفيذ أوامره.
هذا التداخل الديني الاقتصادي السياسي هو الذي جعل من الجماعات الدينية وحدة التنظيم الاجتماعي الرئيسية في المشرق العربي في العهد العثماني إلى درجة ان أصبح زعيم الطائفة هو المرجع السياسي والقضائي والمدني لأفراد طائفته، الأمر الذي رسّخ من بناء المؤسسات الطائفية ودورها آنذاك.
ومما يؤكد ان مصطلح (الطائفة) لم يترسخ بمضمونه الديني في العهد العثماني ما اتخذه تنظيم الجماعات الدينية في الامبراطورية العثمانية حتى القرن التاسع عشر من تسمية (نظام المِلل) بدلاً من نظام الطوائف.

Comments are disabled.